سورة الجاثية - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الجاثية)


        


{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)}.
التفسير:
قوله تعالى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.
مضى تفسير {حم} في مطلع أكثر من سورة من الحواميم.. وقد جاء بدء سورة غافر، هكذا:
{حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}.
والاختلاف بين مطلع السورتين، في وصف اللّه سبحانه وتعالى هنا بالحكمة بعد العزة، على حين جاء الوصف في سورة غافر، بالعلم بعد العزة.
وهذا الاختلاف يقتضيه المقام هنا وهناك.. ففى سورة غافر، كان العلم مطلوبا للكشف عما يدور في نفوس المشركين من هواجس، وما يبّيتون من مكر.
وهنا الحكمة مطلوبة، حيث تعرض الآيات القرآنية مشاهد من هذا الوجود في أرضه وسمائه،.. وكل مشهد منها تتجلّى فيه الحكمة الإلهية التي أبدعت هذا الوجود وأقامته على أكمل نظام وأروعه.
قوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
هو عرض عام للوجود كله، في السموات والأرض.. ففى كل نظرة ينظر بها المؤمن في هذا الوجود، يرى آيات دالة على قدرة اللّه، وعلمه، وحكمته.
فالكون كله- في نظر المؤمن باللّه- هو كتاب مفتوح، يقرأ في صفحاته آيات تحدث عن جلال اللّه، وعظمته، وكماله.
وفى كل شيء له آية *** تدلّ على أنه الواحد
أما غير المؤمن فلا يرى فيما يرى من هذا الوجود، إلا أشباحا تتحرك، وكائنات تظهر وتختفى.. وقد ينبهر بما يرى، ويفتن بما يملأ عينيه من جمال، ولكنه يظل حيث هو في تعامله مع كائنات الوجود وعوالمه، دون أن يصله شيء من هذا بخالق الكون ومبدعه! قوله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
وهذه نظرة في أفق محدود من آفاق الوجود.. إنها نظرة ينظر بها الإنسان إلى نفسه.. وكيف خلق؟ ومن أين جاء؟ ثم نظرة أخرى يتجاوز بها حدود نفسه، إلى عوالم الأحياء التي تدب على الأرض وتعيش فيها. فهى عوالم كثيرة، مختلفة الأشكال والصور، بعضها يعيش على اليابسة، وبعضها يعيش في الماء، وبعضها يسبح في الجو.. وفى كل عالم منها أجناس كثيرة لا تكاد تقع تحت حصر.
ففى هذه النظرة القائمة على حدود الإنسان وما يحيط به من كائنات حية، يرى المؤمن ما يملأ قلبه يقينا بما للّه سبحانه وتعالى من حكمة، وعلم، وقدرة، حيث تصنع القدرة الإلهية من تراب هذه الأرض، تلك الكائنات المنتشرة في كل أفق من آفاقها، والتي تملأ وجه الأرض حياة، وحركة، وجمالا.
قوله تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
وهذه نظرة أخرى فيما وراء الحياة وصورها المختلفة، في الإنسان والحيوان.. نظرة في هذه الحركة الدائمة بين الليل والنهار، حيث يخلف أحدهما الآخر، كما يقول اللّه تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً} [62: الفرقان].
وعلى امتداد هذه النظرة في الليل والنهار، حيث تلبس الأرض ثوبا من ضياء بالنهار، ثم تخلعه لترتدى ثوبا أسود بالليل- على امتداد هذه النظرة، ترى السماء وقد نزل منها الغيث الذي ينزع عن الأرض ثوب الموت، ويلبسها ثوب الحياة، كما ترى الرياح التي تدفع السحب، وتسوقها إلى كل اتجاه.
فهذه النظرة تحوى في أعماقها نظرات معطية لكثير من الدلائل والآيات الدالة على قدرة اللّه.. وإنها لن تتجلى إلا لأولى العقول السليمة، والمدركات القوية النافذة.. الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض، ثم ينتهى بهم التفكير إلى الإيمان باللّه، والإقرار بوحدانيته، وتفرده بالخلق والأمر.


{تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)}.
التفسير:
قوله تعالى: {تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ}.
آيات اللّه، هى تلك الآيات التي ذكرت من أول السورة.. وليست آيات اللّه محصورة في هذه الآيات، وإنما عبّر عن هذه الآيات بما يفيد حصر آيات اللّه كلّها على هذا النمط العالي من الكمال والجلال، والإعجاز.. فكل آية من كتاب اللّه، تمثل آيات اللّه كلّها في إحكامها وإعجازها.
وقوله تعالى: {نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} جملة حالية من قوله تعالى: {آياتُ اللَّهِ} أي هذه آيات اللّه متلوّة عليك بالحقّ الذي تحمله في كيانها.
وفى إسناد تلاوة آيات اللّه على النبي، إلى اللّه سبحانه وتعالى، مع أن الذي يتلوها عليه هو جبريل- في هذا تشريف للنبىّ، واحتفاء به، وتكريم له.
وحسبه- صلوات اللّه وسلامه عليه- من الشرف والرفعة، أن ينكشف الحجاب بينه وبين ربّه جلّ وعلا وأن يخلى جبريل مكانه بين اللّه سبحانه، وبين عبده محمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- فلا يسمع الرسول إلّا كلمات ربّه، من ربّه وإن كان جبريل هو الذي يحملها إليه.
وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ} استفهام إنكارى تقريعىّ، يسفّه موقف المشركين من آيات اللّه، واتهامهم لها، وشكّهم فيها وتوقفهم عن الإيمان بها. فأى حديث بعد حديث اللّه، وأي آيات بعد آيات اللّه، ينتظر القوم أن يأتيهم ببيان أجلى من هذا البيان، وحجة أبلغ وأصدق من هذه الحجة، ليؤمنوا به، ويطمئنوا إليه؟.
إن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي يتحدث بآياته تلك التي يتلوها الرسول عليهم.. فاللّه سبحانه وتعالى يتلوها على الرسول، والرسول يتلوها عليهم، ويبلغهم إياها.. ولو أنهم أحسنوا الاستماع، وفتحوا لما يسمعون آذانهم وقلوبهم، لسمعوا الحقّ جلّ وعلا، يتلو عليهم هذه الآيات التي يتلوها الرسول عليهم، ولا رتفع الحجاب بينهم وبين ربّهم.. فإن كلمات اللّه تأخذ طريقها مباشرة إلى القلوب المهيأة لها، المستعدّة لا ستقبالها.
قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ}.
هو تهديد ووعيد بالويل والبلاء، لمن يسمع آيات اللّه تتلى عليه، ثم يلقاها ضائفا بها، متكرّها لها، مستعليا ومستكبرا، على الإقبال عليها، والنظر في وجهها، فلا يأبه لما يتلى عليه منها، بل يمضى كأن لم يسمع شيئا، كان في أذنيه صمما.
والأفاك: صيغة مبالغة من الإفك، والافتراء، وقلب الحقائق.
والأثيم: صيغة مبالغة كذلك من الإثم، وهو اقتراف المنكر، واجتراح السيئات.. وهاتان الصفتان هما الآفتان اللتان تتسلطان على أهل الزيغ والضلال، فلا يكون منهم قبول للحق، ولا تجاوب معه.. إذ كيف يجد الحق له مكانا في نفوس لا تستمرئ إلا الإفك، ولا تستطيب إلا الإثم؟.
وقوله تعالى: {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً}.
إما أن يكون من الإصرار، وهو التمسك والتشبث بما مع المشركين من شرك.. ويكون المعنى: ثم يصر على الكفر، ويتشبث به، مستصحبا معه الكبر والاستعلاء.. وهذا مثل قوله تعالى في قوم نوح: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً} [7: نوح]..
وإما أن يكون من الصرّ، وهو تجّهم الوجه، ضيقا وتكرها.. ومنه قوله تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [29: الذاريات].
ومنه الصّر، وهى الريح الباردة التي يجمد منها الدم في العروق.. ومنه الصّرصر، وهى الريح العاصفة الباردة.
وقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} هو بيان لهذا الويل، الذي توعد اللّه سبحانه وتعالى به كل أفاك أثيم، ذلك الذي يسمع آيات اللّه تتلى عليه، ثم يلقاها متكرها مستكبرا.
فالذى يساق إلى هذا الأفاك الأثيم من بشريات في يوم القيامة، هو العذاب الأليم.. فهذا هو النعيم الذي يبشّر به، ويزفّ إليه..! فكيف إذا انتقل من هذا النعيم الجهنمّى إلى العذاب الموعود به؟.. وهذا أسلوب من الأساليب البلاغية التي تكشف عن جسامة الأمر، وفداحة الخطب، وذلك يوصفه بغير صفته.
قوله تعالى: {وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ}.
هو معطوف على تلك الأوصاف التي وصف بها الأفاك الأثيم في الآية السابقة.. فهو لا يسمع آيات اللّه، ولا يعقلها، ثم إنه إذا سمع شيئا من آيات اللّه- عرضا- ووقع له منها بعض العلم- عفوا، من غير قصد- لم ينتفع بهذا العلم، بل يتخذ منه مادة للسخرية والاستهزاء.. لأنه لم يكن حين استمع لآيات اللّه يقصد استماعا، ولا يبغى علما.. ومن هنا لم يكن لما وقع له من علم، ثمر ينتفع به، أو خير يرجى منه.. بل لقد فتح له هذا العلم طريقا جديدا من طرق الضلال التي يسلكها.
وفى قوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} بضمير الجماعة العائد على المفرد- في هذا ما يشير إلى أن استهزاء المستهزئ، وسخرية الساخر بآيات اللّه، لم تكن تتحق صورتها، إلا بمشاركة ممن يستمع له، ويجرى معه في استهزائه وسخريته، سواء أكان ذلك بمجرد الاستماع والاستحسان، أو بتجاذب حبل الحديث معه، ومدّه بمدد جديد من السخرية والاستهزاء.
فالسخرية والاستهزاء، لا يكون لهما وجود بعمل فردىّ، وإنما الذي يعطيهما الحياة، هو المشاركة الصامتة، أو الناطقة، ومن هنا كانت كلمة السوء في مجلس من المجالس، مأثما يحيط بأهل المجلس جميعا، إن هم سكتوا على كلمة السوء، ولم يقم فيهم من ينكرها على صاحبها، ويكبته ويخزيه.
وفى قوله تعالى: {أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} وفى وصف العذاب بأنه عذاب مهين لهم، مذلّ لكبرهم- هو رد على استهزائهم بآيات اللّه، واستخفافهم بها.
قوله تعالى: {مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ}.
أي أن العذاب المهين، الذي سيأخذ المستهزئين بآيات اللّه، المستخفّين بها- هو عذاب جهنم، التي تطلع عليهم وهم في غفلة عنها.. إنها تأنى من وراء تلك الحجب من الضلال التي حجبتهم عن اليوم الآخر، فلم يروه، ولم يعملوا على اتقائه، والفرار منه.
ثم إن في وصف جهنم بأنها من ورائهم، وفيما يشير إليه هذا الوصف من غفلتهم عنها- تقريرا للحقيقة الواقعة، وهى أن جهنم وإن كانت أمامهم، تنتظرهم على الموعد الذي يلاقونها عنده- فإنها لا تأنى إلا بعد زمن متأخر عن يومهم هذا الذي هم فيه.
وقوله تعالى: {وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ} جملة حالية، تكشف عن تعرية القوم من كل واق يقيهم هذا العذاب الذي يمد يده لا ختطافهم، وهم في غفلة عنه..!
وقد يكون الإنسان في غفلة عن خطر يتهدده، ولكن هناك ما يحميه من هذا الخطر، ويردّه عنه، كأن يكون في حصن قد أحكم بناءه، وأقام الحراس عليه، أو قد يكون له أولياء يخفّون لنجدته إذا دهمه خطر!.
أما هؤلاء المشركون، المكذبون بآيات اللّه، والمستهزءون بها، فلا شيء لهم من هذا.. فهم عن هذا الخطر في غفلة..، ولا حارس يقوم على حراستهم.. والمال الذي في أيديهم، والذي كان من شأنه أن يكون ذا غناء لهم في هذه الشدة- قد خلت أيديهم منه.
وآلهتهم التي عبدوها من دون اللّه، وكان لهم متعلق بها، ورجاء فيها- قد أنكرتهم، وخلّت بينهم وبين ما حل بهم من بلاء.
فكيف يكون لهم نجاة من هذا العذاب الذي يسوقهم أمامه؟
وفى قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ}.
استكمال لصورة هذا العذاب الذي يلقاه هؤلاء المشركون.. فهو عذاب مهين، وهو مع ما يسوق إليهم من ذلة وهوان- عظيم في وقعه، شديد في بلائه.
قوله تعالى: {هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ}.
الإشارة هنا، إلى القرآن الكريم، وإلى ما تحمل آياته الكريمة المباركة من هدى ونور.. وفى هذا دعوة لهؤلاء الضالين الذين جلسوا مجلس الاستهزاء والسخرية بآيات اللّه، والذين تتهددهم جهنم بعذابها وهم في غفلة عنها- في هذا دعوة لهم إلى أن يهتدوا بهذا الهدى الذي بين أيديهم، وأن يأخذوا به طريق النجاة من النار، التي تكاد تمسك بهم من خلف.. فإن هم لم يفعلوا، فهذه جهنم، وهذا عذابها..!
والرجز: القذر، والمنكر المكروه من كل شىء.
وفى وصف العذاب بأنه مخلّق من القذر، إشارة إلى ما يساق إلى أهل النار من طعام وشراب، هو في أصله مستقذر تعافه النفوس.. فكيف به إذا كان مع استقذاره مقتطعا من النار.


{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)}.
التفسير:
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة عليها، أشارت إلى القرآن الكريم، ونبهت إلى أنه الهدى لكل من طلب الهدى.. ثم تهددت الآية أولئك الذين يكفرون بربّهم، ولا يقبلون على هذا الهدى الذي أنزله اللّه سبحانه وتعالى إليهم.
وهذه الآية، تجىء بعد هذا، لتحثّ أولئك الذين استمعوا للآية السابقة، ووقفوا موقف التدبّر والتبصر- على أن يسرعوا الخطا إلى اللّه، وان يستجيبوا لما يدعوهم إليه الرسول، من خير وهدى.. وإنهم إذ يتجهون إلى اللّه ليجدون هذه الدعوة المجدّدة إليهم، والكاشفة لهم عن جلال ربهم وعظمته وقدرته، وماله من فضل وإحسان إليهم.. فهو سبحانه، الذي سخر البحر، ومكّن الناس من أن يجعلوه طريقا ذلولا تجرى الفلك عليه، كما تجرى الدواب على اليابسة.. كل هذا بأمر اللّه وحكمته.. فهو سبحانه الذي قدّر بحكمته أن تطفو بعض الأجسام على الماء، حسب قانون محكم لا يتخلف أبدا.. ومن عجب أنه بحكم هذا القانون، أن يلقى بالحصاة الصغيرة في الماء فتغوص فيه، على حين أنه يلقى فوق ظهره بالسفينة محملة بالدواب، والناس، والأمتعة، فتظلّ سابحة فوقه! قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
وهذا الإله الذي يدعى إليه العباد، هو الذي سخر لهم ما في السموات وما في الأرض، وأتاح لهم الانتفاع به في كل وجه من وجوه الانتفاع، حسب استعدادهم وقدرتهم على التصرف فيه.
ففى السماء، النجوم، والكواكب.. وهى مسخرة بأمر اللّه سبحانه وتعالى، في دورانها في أفلاكها، على ما يرى الناس منها، في جميع الأوقات.
وهى قائمة على ما أقامها اللّه عليه، من إرسال أضوائها، وأنوارها على الأرض، دون أن يكون للناس شأن، أو حول، في تحويل مداراتها، أو تغيير نظامها.
ثم إن للناس مع هذا أن ينتفعوا بكل ما أمكنهم الانتفاع به منها.. فإذا كشف لهم العلم عن إمكان اختزان الطاقة الحرارية للشمس، واستخدام هذه الطاقة في إدارة المحركات، وتسيير البواخر، والقاطرات، والسيارات، وغيرها- فذلك مما سخر اللّه للناس، ويسر لهم الانتفاع به.. وقل مثل هذا في كل ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان من عالم السماء.
وفى الأرض.. ما لا يحصى من قوى الطبيعة المختزنة فيها، والتي جعل اللّه مفاتحها في يد الإنسان، بما يكشف له العلم من أسرار.
فهذا البناء الشامخ للمدنية، وما تزخر به الحياة في هذا العصر من ألوان لا حصر لها- هو مما أودعه اللّه سبحانه وتعالى في هذه الأرض، وهو ما استطاعت يد الإنسان أن تطوله.. وهناك ذخائر كثيرة لا تزال مطوّية في صدر الطبيعة، تنتظر يد الإنسان القادر على الوصول إليها، وكشف الستر عنها.
وقوله تعالى: {جَمِيعاً مِنْهُ} حالان من لفظ {ما} في قوله تعالى: {ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} أي سحر كل هذا مجتمعا، في حال أنه من اللّه سبحانه وتعالى.. أي من فضله وإحسانه.
هذا وقد رأى بعض أصحاب الجدل والمراء، من طوائف المعتزلة والمتصوفة وغيرهم، أن في قوله تعالى: {مِنْهُ} يشير إلى أن هذا الوجود في أرضه وسمائه، هو من ذات اللّه، وأن هذه العوالم هى ظل اللّه، وتجلّياته، أو هى اللّه ذاته.. إلى غير ذلك من المقولات، التي تنتهى إلى القول بوحدة الوجود، وأنه ليس ثمة خالق ومخلوق.
ولا شك أن هذا تعسف في التأويل، فضلا عن فساد المعنى المستنبط من هذا التأويل.. فإن الجار والمجرور {منه} متعلق بمحذوف، هو مضاف إلى اللّه سبحانه وتعالى، أي ذلك كله، من فضل اللّه، ورحمته.
وفى قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} دعوة إلى إعمال الفكر، في مواجهة هذه القوى المسخرة، حتى ينسج الإنسان من هذه الخيوط المتنائرة هنا وهناك، ثوبا قشيبا، يتزين به، ويكون سمة له، وشارة تفرق بينه وبين عالم الحيوان، الذي يعيش على ما تعطيه الطبيعة، دون أن يكون له أثر يذكر في تحوير شيء أو تبديله.
قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد كشفت عن بعض الوجوه المنكرة من المشركين الذين إذا علموا من آيات اللّه شيئا اتخذوها هزوا، ومع هذا فإن اللّه سبحانه وتعالى لم يمسك رحمته عنهم، بل ساق إليهم آياته، تحمل إليهم الهدى، وتدعوهم إليه، وتغريهم بالإيمان باللّه، بما تعرض عليهم من دلائل قدرته، وسوابغ نعمه.
ثم إنه لكى يكون من المشركين الضالين إصاخة إلى هذه الدعوة الكريمة من اللّه سبحانه وتعالى لهم، ثم يكون منهم نظر فيما يدعون إليه من النظر في آيات اللّه، وفيما سخر للناس في السموات وفى الأرض من نعم- لكى يكون من المشركين هذا، كان على المؤمنين ألا يدخلوا معهم في مجال الخصومة الحادة، والجدل العنيف، فإن ذلك من شأنه أن يثير في القوم دوافع الكبر والاستعلاء، وأن يشغلوا بالمؤمنين، وبالانتصار عليهم في المقاولة والمصاولة- عن النظر في أنفسهم والإفادة من آيات اللّه التي تتلى عليهم.
ومن أجل هذا جاء قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} جاء داعيا المؤمنين إلى أن يتجاوزوا عن سفاهة هؤلاء المشركين، وألا يلقوا سفههم بسفه مثله، حتى تتاح الفرصة لهؤلاء المشركين أن يستمعوا إلى آيات اللّه، في جوّ لا تنعقد فيه سحب الجدل والخصام، التي تحجب عنهم الرؤية الصحيحة لآيات اللّه.. وبهذا تقام الحجة عليهم، بعد هذا البلاغ المبين لدعوة اللّه.. فإذا لم يستجيبوا بعد هذا، لم يكن لهم عذر يعتذرون به، ووقعوا تحت طائلة العقاب الذي هم أهل له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}.
فلقد أزيلت الحواجز التي تحجز القوم عن الاستماع إلى آيات اللّه، حتى لقد احتمل المسلمون ما احتملوا من سفههم وتطاولهم عليهم، كى يهيئوا لهم الجوّ الصالح للاستماع، والنظر، والتأمل، فإذا كان بعد هذا ثمة حاجز يحجزهم عن الإيمان باللّه، فهو من عند أنفسهم، وكان كفرهم وضلالهم من صنع أيديهم، التي حجبوا بها نور الحق عنهم.
وفى قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ}.
.. وفى تنكير {قوم} إشارة إلى قوم بأعيانهم، وأن أمرهم مع تنكيرهم، أظهر من أن يدلّ عليه، وأن يعرّف به.. وهؤلاء القوم، هم أولئك المشركون، الذين دعى المؤمنون إلى أن يغفروا لهم، وأن يتجاوزوا عن سيئاتهم وسفاهاتهم.
فهؤلاء القوم قد امتنّ اللّه سبحانه وتعالى عليهم بهذه المنة العظيمة، بفضل مقام رسول اللّه فيهم، فلم يعجّل اللّه سبحانه وتعالى لهم العذاب، بل أمهلهم إلى آخر لحظة من حياتهم، حتى تكون أمامهم فسحة من الوقت، يصلحون فيها أنفسهم، ويصححون عقيدتهم.. ثم إنه- سبحانه- بعد أن أفسح لهم المقام في هذه الحياة الدنيا، صرف عنهم الدواعي التي تشغلهم عن الاستماع إلى آيات اللّه التي تتلى عليهم، أو تحول بينهم وبين النظر فيها، فدعا اللّه سبحانه وتعالى الذين آمنوا، أن يغفروا لهم، وألا يدخلوا معهم في جدل.
وهذا كله دليل على مزيد من الفضل والإحسان إلى هؤلاء القوم.. فإذا لم يستقبلوا هذا الفضل وذلك الإحسان بالإقبال على اللّه، والاستجابة لما يدعوهم سبحانه وتعالى إليه، من هدى- لم يكن لهم بعد هذا إلا العقاب الأليم.
وأيام اللّه، التي لا يرجوها هؤلاء المشركون ولا يتوقعونها، هى الأيام الواقعة في الحياة الآخرة، والمراد بها الحياة الآخرة، ذاتها، وإنما عبّر عنها بالأيام، لأن الأيام دلالة على وحدة من وحدات الزمن في الحياة الدنيا، وهناك في الحياة الآخرة أيام ذات دلالة على الزمن، وإن اختلفت تلك الأيام عن أيام الدنيا في مقدارها.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى في قوله عن أهل الجنة: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [62: مريم].. وفى إضافة أيام الآخرة إلى اللّه سبحانه وتعالى، مع أن الأيام كلها هى أيام اللّه- إشارة إلى شرف هذه الأيام، وإلى عظم قدرها، وأن أيام الحياة الدنيا إذا ووزنت بها لا تساوى شيئا، كما يقول اللّه سبحانه: {وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ} [64: العنكبوت].. وكما يقول سبحانه: {وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ} [26: الرعد].
فللأيام أقدار وأوزان عند اللّه، كأقدار الناس وأوزانهم، فالناس كلّهم عباد اللّه، ولكن اللّه سبحانه يضيف إلى ذاته أهل ودّه، ومحبته، تكريما لهم وتشريفا.. فيقول سبحانه: {فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [17- 18: الزمر].
قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}.
هو تعقيب على الآيات السابقة، وما حملت إلى المشركين من دعوة إلى الإيمان، وما دعت إليه المؤمنين من الرفق بالمشركين والتجاوز عن جهلهم وسفاهتهم.. فمن استجاب لأمر اللّه، وعمل صالحا، فله جزاء عمله، ومن أعرض عن اللّه سبحانه وتعالى، وركب طرق الباطل والضلال، فسيلقى جزاء كفره وضلاله.. فهناك يوم يرجع فيه الناس جميعا إلى اللّه، ويحاسبون على كل ما عملوا، ويجزون عن الإحسان إحسانا ورضوانا، وعن السوء عذابا ونكالا.

1 | 2